(1)
في الفترة الأخيرة شهدت الساحة السعودية ولادة الكثير من الأطياف وتبلور الكثير من الأفكار والقناعات الجديدة ، التي أصبحت تتخذ شكل توجهات جديدة بعيدة أو قريبة من توجهاتها السابقة ، أو ربما حتى إعادة إصطفاف في داخل القناعات السابقة .
وفي السنوات الأخيرة بدأت جدليات وحوارات كثيرة دارت حول قناعات ومبادئ سابقة كثيرة ، أتخذت شكل جو حواري في الساحة العامة على شكل مقالات ، بعد أن كانت تدور في الجلسات الخاصة وضمن الأشخاص المهتمين فقط ، ثم مع مجيء الشبكات الاجتماعية دارت بعض النقاشات الجدية في الفايس بوك والتويتر ،، وكانت أغلبها تنحصر بين شخصين أو ثلاثة ، وكل منهما يعبر عن توجهة ، إذ كانت أقرب للمناظرة ولليس للحوار المعرفي الذي يطرح كل شخص في مقاله إشكاليته ويحاور الفكرة الأخرى من منظوره ـ الخاص ـ . إلى أن وصلت حاليا إلى مقالات مطولة ـ في موضوعنا الذي سنحاول تغطيته تعدت العشرة مقالات حتى كتابة هذه السطور ـ وفي جو عام يراه كل المتابعين ، محدثة حراك فكري كبير لا يزال يشغل الساحة
ومسألة سيادة الأمة وتطبيق الشريعة ، الذي تلقى في خلال أسبوع تقريبا ما يقرب من العشرة مقالات ولا يزال قابلا للمزيد من طرح المقالات، ليست إشكالية هامشة في مجتمعنا ، بل ربما تعتبر من أعمق الإشكاليات والأفكار التي تصطف حولها الأطياف الفكرية لدينا ، ومسألة طرحها على المجال العام وحدوث حوار عميق حولها ، مسألة مهمة ولا شك ، ومجرد متابعتها ربما تبرز للمتابع خلفيات جديدة لم تكن واضحة .
وفي هذا التحقيق لن أحاول أن أصل إلى هذه الخلفيات ، فهي حق مشاع . لكن سأحاول أن أرصد “حوار الأفكار” بطريقة محايدة ، وسأحاول أن أمسك بالخيط العام الذي يصل مختلف هذه المقالات ، حتى نستطيع أن نخرج “ليس بنتيجة” ولكن بتصور عام لهذا الحراك الذي يعتبر ـ في تصوري ـ من أهم الحراكات التي ـ وإن كانت تقريبا لا تزال داخل “اتجاه واحد” ـ حصلت على الساحة الفكرية السعودية في السنين العام.
(2)
بعنوان سيادة الأمة قبل تطبيق الشريعة ، خرج المقال لعبد الله المالكي الذي بدأه عن طريق النظر إلى الدافع الذي دفع الشعوب العربية للثورة ، يقول المالكي أن ما دفع هذه الشعوب ليس لأي دافع أيديولوجي كان ، سواء كان تطبيق الشريعة أم غير من الديانات أو الفلسفات الوضعية الأخرى . وإنما الذي أخرجها هو رغبتها في استردادها لحريتها ولسيادتها
ومن ضمن ما أفرزه الربيع العربي مشروع الإسلام السياسي كمرشح قوي للحكم ، وقد جاء حديث المالكي عن موضوعة في السيادة وتطبيق الشريعة ضمن مجال الربيع العربي بعامة ، وتحت تأثير الإسلام السياسي الذي تحدث عنه ، ولم يخصص حالة مكانية زمانية بعينها ، ولكن لأن خيط النقاشات الذي انتظم في المقالات التي تلت ودار موضوعها الرئيس حول ثنائية الشريعة وتطبيق الشريعة ، فإنا سنضطر إلى إلغاء كل حديث لم يدر حول هذه الثنائية .
وإذ يبرز مشروع تطبيق الشريعة كهدف ـ متعدد ـ لمختلف توجهات الاسلام السياسي ، فقد تساءل المالكي عن الكيفية الفضلى لتطبيقها ـ أي الشريعة ـ . فقد طرح الطرق المؤدية إلى “تطبيق أفضل” للشريعة ، فقال ابتداء :
لا يحق لأحد – بعد تحقيق سيادة الأمة – أن يفرض شيئا على هذه الأمة دون الرجوع إلى الاحتكام إلى إرادتها وإلى الدستور الذي اختارته عبر صندوق الاقتراع. فإن اختارت الأمة منظومة القيم والمبادئ الإسلامية كمرجعية عليا وإطارا للتشريع والقوانين فلا يحق لأحد أن يفتئت عليها أو يفرض ما يناقض ويعارض مرجعيتها الدستورية
وبناء على هذا فليس على دعاة الإسلام مهمة سوى أن يمارسوا حقهم في البلاغ ودعوة الناس إلى مبادئ الإسلام دون فرضها على الشعوب . لأن الفرض لا يكون إلا عبر إرادة الأمة من خلال مؤسساتها ، وهذا لن يتحقق ـ بحسب المالكي ـ إلا عبر “سيادة الأمة بمجموعها لا بيد فرد متغلب أو فئة أو حزب معين يحتكر السيادة دون الأمة” .
ثم ينبه إلى أن هذا لا يعني بأن الشعب هو معيار المبادئ والقيم والأخلاق ، بل مرجعية الشعب هو المعيار ، ومعرفة الحلال والحرام لا يكون من خلال الاستفتاء الشعبي وإنما من خلال مصادر التشريع في الإسلام وعلى رأسها الكتاب والسنة .
ويقرر المالكي أن الشعوب تنحصر وظيفتها في خلع السلطة والسيادة على قيم معينة وتحويلها من مجرد قناعات أخلاقية إلى قوانين ، ثم يثبت أن الحاكمية للمرجعيات وليس للشعب . ليصل من هنا إلى أن أفضل آلية لـ “تطبيق الشريعة” هي “الديمقراطية” ، لماذا؟ ، يقول المالكي لأن مجالس التشريع في الديمقراطية لا تفتي ولا تبين الأحكام الشرعية ، وإنما هي مجرد منفذ ومانح للسلطة عبر مؤسسات مرجعها المجتمع وليس الحاكم الفرد المتغلب.
ثم يفرق المالكي ، بين “الشريعة” و “تطبيق الشريعة” ، فيقول أن الشريعة ككل القيم والأخلاقيات جامدة لا تتجسد في الواقع إلا عبر الإنسان ، ومن ثم فالشريعة لا يمكن تطبيقها إلا عبر الحاكم الفرد المتغلب أو مجموع الأمة ، وبالتالي فمصدر “السلطة والسيادة” هو الذي يحول المرجعية إلى قوانين دستورية ذات سلطة وسيادة مطلقة .
ثم في النهاية يصرح بمعتقده وفقا لما شرحه بأن الأمة هي المخاطبة بالتشريع وهي المكلفة بالتطبيق وليس فردا معينا أو فئة خاصة دون البقية . ويتمنى التحول من شعار “الإسلام هو الحل” إلى شعار ” سيادة الأمة هي الحل” .
أعقب هذا المقال رد فعل عنيف من د. عبدالعزيز العبد اللطيف ، خلا فيه من أي رد واتهمه فيها بقارفة الروغان عن شريعة الاسلام واللوذ بوثنية “سيادة الأمة” والتلفع بإرادة الشعوب والنفاق ، وقد أفرد هذا الحدث تركي العبد الحي بتقرير صحفي نشرته صحيفة الشرق في حينه ، يكفي “لمجرد الإشارة” .
ثم جاء رد د. خالد المزيني والذي كان أكثر هدوءا وأكثر موضوعية ، رده جاء عبر تغريدات في تويتر عبر فيها عن رأيه في سيادة الأمة وتطبيق الشريعة ، بدأها بمدخل تحدث فيها عن أمثلة لمبادئ وممارسات توافق عليها العرب في الجاهلية باختيارهم ثم جاء الإسلام وأبطلها دون الرجوع لمشورتهم ، ثم في خلافة الفاروق حصل التطور التشريعي الذي تم من خلاله بناء مؤسسات بشكل يجمع ـ حسب رأي المزيني ـ بين إلزامية الشرع ورضا الناس ، وتعرض فيها لمثال منع المواخير وبيع الخمر من دون الرجوع لمشورة الناس .
ثم بدأ في موضوعه وهو فكرة إلزامية الشريعة وسيادة الشرع أو الأمة ، فقال أن فكرة السيادة والحرية وباقي هذه العائلة الحقوقية ـ هكذا يسميها ـ هي مفاهيم شديدة الالتباس ، فلا تصلح معيارا موضوعيا حين تحاكم الشريعة على أساسه ، فالشريعة مطلقة لا تحاكم بمعايير نسبية ، وقد وضعت لتكون حاكمة لا محكومة . وفي معرض رده عن القائل بإيجاب التفريق بين “الشريعة ، وبين ” تطبيق الشريعة ” يقول : ماذا لو قيل يجب التفريق بين “الحرية” وبين “تطبيق الحرية” و بين “السيادة” و “تطبيق السيادة” وغيرها . ثم يقارن بين من يقول بأنه تم توظيف الشريعة في إقصاء سيادة الأمة واسعبادة ، بقوله بأنه أيضا تم توظيف السيادة والحرية في أوروبا في سبيل إقصاء القيم التي تؤمن بها الأمة . ليصل إلى أنه لا بد من مبادئ فوق دستورية . وهذا ـ بحسب رأي المزيني ـ آخر ما توصل له العقل الديمقراطي الغربي .
ثم ينبه إلى صعوبة الكلام في المفهوم الاجرائي للحرية والسيادة ، لأن شروط البحث النظري سهلة فيما هي ممتنعة في البحث الاجرائي لأنه يتطلب أن يكون معيار للتقومي ، ولأن كل مفهوم له مرجعيته ونصوصه المؤؤسة . ثم إن نصوصنا ـ أي المسلمين ملزمة ، بينما عند الغرب غير ملزمة لهم .
ليطرح في النهاية التحدي الذي يبرز ـ والكلام للمزيني ـ أمام الشرعيين وهو : طرح نماذج إجرائية واقعية التطبيق .
فيما كتب مشاري الشثري عبر صفحته في تويتر أيضا مجموعة تغريدات عبر فيها عن ما أسماه بمغالطات عبد الله المالكي ولخصها في مايلي :
ـ إغفال المالكي للهدف الرئيسي من الاسلام السياسي .
ـ مطالبته للتيارات الاسلامية بمواكبة تطلعات الشعوب العربية .
ـ تسويغه اخيار الأمة غير مرجعية الإسلام
جعله حرية المعتقد والضمير من محكمات الشريعة .
جعل السيادة للأمة يعني جعلها معيارا للمبادئ والقيم .
مغالطته في الفرق بين “الشريعة” و “تطبيق الشريعة” . وبأن سيادة الأمة قبل “تطبيق الشريعة” لا يعني تقديمها “الشريعة” نفسها.
فيما كتب صالح الضحيان رده على موضوع قبلية السيادة فاتهمه بعدم التخصص ـ يحمل المالكي بكالورويوس شريعة ـ واعتبر المقال سقطة كبيرة للكاتب . وقال أنه ذهب إلى ما هو أبعد من العلمانية ، إذ أنه ـ حسب رأي الضحيان ـ يذهب إلى إقصاء الدين كله عن الحكم إذا رفضه الشعب ، فيقول :
ما ذهب إليه الكاتب في مقالته هذه أبعد مما ذهبت إليه العلمانية . فالعلمانية لا تقصي الدين بالجملة ولكنها تسعى لفصل السياسة والاقتصاد عن الدين . أما الكاتب فذهب إلى إقصاء الدين كله عن الحكم إذا رفضه الشعب .
ثم يساءل المالكي فيقول : لماذا شرعت الفتوحات الاسلامية ولماذا فتحت الأمصار إلا لكي يسود حكم الله في الأرض؟ ، ثم أنه عندما دخل الرسول مكة فاتحا فقد قام بتحطيم الأصنام مباشرة دون أن يسألهم هل يطبق الشريعة أم لا يطبقها . واعتبر الضحيان أن الاستجابة لرأي الشعب في رفض تطبيق الشريعة هو رفض للحكم بما أنزل الله وتعطيل للحدود ورفض الحكم بما أنزل الله
وكذلك سعد العواد الذي طرح تنائية تخييريه فإما “السيادة الشعبية” وإما “تطبيق الشريعة” . فكذلك اتهم مقال المالكي بأنه يطفح بالمغالطات من قمة عنوانة “سيادة الأمة قبل تطبيق الشريعة ” حتى أخمص عباراته “سيادة الأمة هي الحل”. وكانت النقطة الرئيسية التي دار حولها مقال العواد هي سؤاله عن مرجعية السلطة والشرعية ، وماذا لو اختار الشعب مرجعا أو شرع قانونا ضد الشريعة . وبعد اتهام باعتناق العلمانية ، ينهي الكاتب مقاله باتهام آخر :
الخلاصه هي أن المقال لايعدوا كونه محاوله بائسه يائسه مقززه مخزيه لإقحام الديموقراطيه التشريعيه في حناجر المسلمين والتدليل لذلك بالشريعه!! الشريعه التي قال واضعها عز من قائل (إن الحكم إلا لله).
ثم يرد نواف القديمي في معرض السجال الحامي بين المالكي ومنتقديه ، فيبتدئ بانتقادة لموجة التخويف والتشويه والاساءة والطعن في النوايا والاتهام بالعلمانية ، ويمتدح التعليقات المثرية التي حملت كثيرا من الأدب واللياقة
ثم يلخص فكرة المالكي باقتضاب شديد ويوردها في نقطتين رئيسيتين :
1- المسلم غير مخير في موضوع التزامه بالشريعة ، بل مأمور بذلك قطعا
2- هناك فرق بين الالتزام الواجب للمسلم بالشريعة ، وبين فرض تطبيق الشريعة على “أمة” رفضتها
ثم يستعرض الردود التي نشرت على مقال المالكي :
– التأكيد على مسألة ليست “منطقة خلاف” بل “منطقة اتفاق” وهي “المسلم ليس مخيرا بل مسير في مسألة التزامه بالشريعة”
– وفي سياق اثبات فكرته يستعرض مسألة حروب الردة التي تكلم المعارضين لفكرة المالكي كثيرا عنها ننقلها كما هي :
(وتحدث بعضهم عن شرعيّة الإلزام استشهاداً بما فعله الخليفة أبو بكرٍ الصديق في قتاله للمرتدين.. وقد أُجيب عن ذلك بأن المُرتدين كانوا قد انفصلوا عن جسم الدولة المُسلمة، وظهر عند كثيرٍ من الأقوام مُدعي النبوة (كما عند أقوامِ مُسيلمة الكذاب، والأسود العنسي، وسجاح التميميّة، وطليحة الأسدي).. إضافة إلى أنه بإجماع المسلمين أن (من منع تقديم الزكاة إلى الحاكم وقرر صرفها بنفسه) أنه لا يكفر.. وبذلك فليس كلُ من قاتلهم أبو بكر كانوا كفاراً.. وهذا يُعطي اعتباراً إلى أن الانفصال السياسي عن جسم الدولة المُسلمة كان من ضمن مُبررات القتال.. إضافة إلى ما أشار إليه البعض من خصوصية الجزيرة العربية.)
– ثم يحدد منطقة الخلاف في سؤال : هل المسلم مأمور بفرض تطبيق الشريعة على أمة رفضتها ؟
– ثم يستشهد ببعض النصوص التي يستشهد بها من “لايرى” فرض تطبيق الشريعة على أمة رفضتها
– ثم يستحضر بعض الأوصاف التي أطلقها البعض في ردهم على مقال المالكي ، ويحاول استعراض وحشد الأطياف المؤيدة لما ذهب إليه المالكي في العالم الإسلامي . ثم يقول بعد هذا الاستعراض
لابد أن يُدرك الإخوة الذين وصفوا هذا القول بالعلمانية، والكفر، والوثنية، والنفاق، أنهم بذلك يتهمون غالبية الحركات الإسلامية المعاصرة، وكثيرٍ من العلماء المعاصرين _ وربما غالبهم _ بهذه الأوصاف البشعة.. وهو أمرٌ أقل ما يوصف به أنه غلوٌ في الدين، وقلةٌ في الفقه والورع، لا يليق بصغارِ طلبة العلم، فضلاً عن العلماء.
ثم يكتب وائل الحارثي مقالا أصوليا قدم فيه “سيادة الأمة” على “تطبيق الشريعة” ، واعتبر تقديم السيادة ضمانة لـ “نجاح” تطبيق الشريعة ، ثم يقرر بأن انقاذ الأمة من مزاجية الحكام والمستبدين أولوية تحفظ الشريعة والشعوب من مظالم حكم الفرد ، حتى يخلى بين الناس والشرع . ويحافظ “مجموع الأمة” على الشريعة .
أما سلطان العميري فتحت عنوان “ظاهرة المقابلة بين تطبيق الشريعة وسيادة الأمة ” يقول أن هذه الاشكالية ـ أي المقابلة ـ لا تحل مشكلة الاستبداد وأن السيادة هي “مصدرية” لتطبيق الشريعة ، بينما الشريعة هي “مرجعية” لتطبيق السيادة . وبما أن هذه طرح حل المقابلة لا يحل المشكلة ـ التي هي الاستبداد ـ فهو ـ باعتبار العميري ـ حل لمشكلة أخرى .
(3)
من خلال العرض الموجز للمقالات التي استعرضتها ، يتضح افتقاد الحبل الواصل بين الفريقين في الحوار ، بين من يدعو بفكرة “سيادة الأمة قبل تطبيق الشريعة ” ، ومن يحذر من هذه الفكرة باعتبارها القاطرة التي ستجر المجتمع نحو سيادة الأفكار العلمانية . ومن خلال الردود بدأ كل طرف في الايغال في شرح فكرته “أو اتهامه” بشكل بدا وكأنه يخاطب نفسه ولا يوجد طرف آخر في الجدال . مما حرم الفكرة من ايجاد الزخم حولها وتكوين تراكم فكري معرفي يرصد باتجاه بلورة آلية لـ “تطبيق الشريعة” . التي كانت الفكرة/ الهدف ، وأصبحت الفكرة / الحجر التي يتهم كل خصم بها الاخر . فريق يساند المستبد ، وأخر يعلمن المجتمع .
نشر المقال أيضا في صحيفة أنحاء
http://www.an7a.com/an7a-authors/7270-2011-11-24-15-45-17.html